2018-04-07 00:00:00

.,.,

أبٌ حُكِمَ على زوجته بالسجن سبع سنوات ونصف، ولديه 3 أطفال؛ اثنان منهم يعانيان من مشاكل نفسية، أما ثالثهم فهو أصغرهم سنًا، وقد بلغ حديثًا عامًا ونصفًا من العمر، وسيبقى مع والدته في السجن طيلة مدة حبسها، كان -هذا الأب- يقول لي “لم يَعُدْ عند هؤلاء دين ولا كتاب ولا مذهب ولا ضمير”.
لم يكن يعرف كيف سيتمكن من مواصلة حياته البائسة التي انقلبت رأسًا على عقبٍ، وعلى الرغم من نشأته في مجتمع ديني إلا أنه كان يقول كلامًا صادمًا؛ فقد كان يقول “إنني أنزلق نحو اللا دينية بسبب الحكام والمسؤولين ورواد الجوامع والمساجد الذين يدعمونهم، أنزلق وأتراجع إلى الوراء. إنني حائر، كيف لا يتصدى الدين والمتدينون إلى مثل تلك الأعمال التي يرفضها كل ضمير ووجدان سليم.”
ثم يضيف قائلًا “إنني الآن فحسب أفهم الأكراد والعلويين واليساريين فهمًا جيدًا، وأرى أنني مدين لهم بالاعتذار بسبب عدم اكتراثي واحساسي بهم في السابق..”
إن هذا مثال بارز وواضح على الانزلاق نحو حالة اللا دينية والإلحاد الملحوظة لدى الشباب، أو المتدينين الأتراك في بعض المؤسسات الدينية التعليمية، والتي تخضع للنقاش في المجتمع منذ فترة.
لقد صادفت الكثير من هذه الحالات والحالات المشابهة لها، فكثير من الناس قد اختلت قيمهم كلها إزاء ما تعرضوا لها من أحداث وحشية متعسفة. هؤلاء الناس يعيشون حالة من المحاسبة والمساءلة مع الحياة بشأن المعتقدات والمتدينين.
هناك العديد من الأسئلة والاستجوابات المهمة ليست لدى الشباب فحسب، بل ولدى الفئة المتوسطة عمريًا في المجتمع أيضًا، كما أن هناك تغيرات تحدث في نمط الحياة؛ فبعض النساء اللواتي كن يتصدرن المقدمة في الماضي في مسيرات النضال من أجل ارتداء الحجاب أصبحن يكشفن رؤوسهن، والملتحون من الرجال صاروا يفضلون رغبات وأمورا علمانية في حياتهم العملية والخاصة.
إنها حقيقة، وهي تكشف أن تقييم الشباب فحسب، أو إجراء تقييم سياسي مجرد أمر غير كافٍ ولا وافٍ لفهم القضية، فما الذي يحدث يا تُرَى؟ هل الدين غير كاف، أم أن المتدين بدأ يفقد مصداقيته؟ هل تؤدي السياسة إلى أن يفقد الدين مصداقيته نظرًا لأنها فضلت التحلل والتفسخ؟ يجب تحليل هذه الأسئلة بالتفصيل.
إنه لمن غير الكافي أن يتم تقييم الجدل القائم حول الدين والمتدينين من حيث الأبعاد السياسية للقضية فحسب. هناك حاجة إلى إجراء تقييم شامل وعام على الأكثر.
فمنذ السبعينيات تصاعدت الحركات الإسلامية، وثمة حقيقة مهمة كشفته عنها تلك الحركات، وهي أن الحركات اليسارية التي بلغت القمة في نهاية الستينيات بدأت تتوقف وتتراجع آنذاك، وبحدوث ذلك صار الدين والحركات الإسلامية مركز جذب في كل أنحاء العالم.

إن تولي تلك الحركات السلطة وعجزها عن الإدارة والحكم، وكونها قمعية، وتعسرها في إنتاج إجابات لمشاكل الحياة العصرية، أو توليها السلطة وتسببها في خيبة أمل للناس قد حطم آمال العديد من الأفراد وأصابهم بالإحباط، وعلى رأسهم الأجيال الجديدة. فبعد التصاعد غير الطبيعي بعض الشيء للدين والحركات الدينية كان ذلك الجيل يتلعثم ويتعثر أمام الحقائق التي واجهها فجأة.

وعند النظر إلى الأمر من الناحية الاجتماعية؛ يتبين أنه بينما كان من المتوقع بالنسبة للجماهير المحافظة التي وفدت على المناطق المركزية؛ فجاءت من القرية إلى المدينة، ومن الريف إلى الحضر -بينما كان من المنتظر- أن تألف الحياة العصرية وتبتعد في فترة قصيرة عن أنماط الحياة الدينية، إلا أن الحقيقة لم تكن هكذا.
إن المسلمين التقليديين الذين كانوا قد بدأوا ينسجون الشرنقة الخاصة بهم؛ إذ راحوا يكونون مجتمعا على أطراف المدن قد شَكلوا – مع مرور الزمان- هوية معارضة بسبب السياسات المحلية والعالمية التي مُورست ضدهم، وصاروا يطمحون في تولي السلطة وسدة الحكم.
وفي النهاية نجحت الهوية المحافظة في تحقيق ذلك المطمح، فلما استقرت وتربعت على الساحة بدأت تواجه ما في الحياة من حقائق.
كانت تلك الفئة تخسر الامتحان أمام السلطة التي نالتها، وتتحول إلى الظالم الذي كثيرًا ما انتقدته في السابق.
أضِف إلى ذلك أنها كلما واجهت الحياة الاجتماعية المتغيرة والمتطورة كانت تدرك أن ردودها وتصرفاتها ليست كافية، وأنه لا بد وأن تلوح الانتخابات في أفق سياستها كبديل جديد. كان ينبغي أن يكون لديها إجابة لما تفرضه هويتها التي تعارض الحياة العصرية بكل جاذبيتها وبريقها.
فهل يمكن أن تكون هذه الإجابة نابعة بسبب فهم لا يُجدِّد نفسه، ولا يرغب في تجاوز الكتب الفقهية المدونة منذ قرون مضت، بل ولا يتحمس لفعل ذلك أيضًا؟ فتحيط به من إحدى النواحي جاذبية الحياة العصرية وسحرها، ورؤية لا تنتج حلولًا جديدة كافية لتجديد إيمانها بالحياة الأبدية من الناحية الأخرى.. ومن ثم كان عليه الاختيار إزاء تلك الأمور.
يتناول علي شريعتي في كتابه “العودة إلى الذات” ذلك التناقض، ويكتب عن اختيار المجتمع في ذلك الوقت؛ حيث التقت قيم المجتمع الإيراني الدينية والتقليدية مع العالم الحديث.
لقد صار المجتمع في إيران كما صار في تركيا أيضًا: إما أنه صار مجتمعاً حديثًا بعيدًا عن الدين والأعراف والتقاليد لا يقبل القيم الغربية، وإما مجتمعًا متعصبًا دخل في قوقعته ولم يخرج منها. وكان علي شريعتي يرى أن هناك طريقًا ثالثًا بخلاف السابقين، وأنه يمكن حل المشكلة بالعودة إلى الذات، أي عبر تفسير الدين وجوهر الأخلاق بواسطة العلم الحديث.
إن ما حدث في إيران حدث في تركيا كذلك. فالنخب الجمهورية الحديثة التي سعت إلى تحويل المجتمع بالقمع والضغط نسجت حول نفسها – وبيدها نفسها – ردة فعل لم تفكر في سلوك الطريق الثالث. فكانت ردة الفعل هذه تتنامى ويستحيل إيقافها؛ فحدث أن تولت السلطة والحكم من خلال الثورة كما حدث في إيران، أو أنها تولت مقاليد الأمور في البلاد بالطرق الديمقراطية كما حدث في تركيا، غير أن الخيار الثالث قد أُهمِل، ولم تكن هناك محاولة ولا تفكير في إنشاء فهم يواكب الحياة المتغيرة ويلبي احتياجاتها، ولا سيما الشباب فيها.
لقد تم انتاج خيارات تقوم في الأغلب على رد الفعل، واستهدف الثأر للنفس، وكان يُعتقد أنه يمكن الحكم بصياغة نسخة إسلامية من كل المفاهيم. لكن الصراع الموجود على أرض الواقع والخيارات الجديدة كنت أمرًا لا مفر منه. فالسلطة حتى الآن ما زالت تراهن على شعارات الاستقطاب الديني أملًا منها في تغطية فسادها وانتهاكاتها للقانون.
ويمكنني أن أسرد نماذج عديدة من واقعي تعبيرًا عن الحقيقة التي رسمها علي شريعتي. فبينما كنت أتخصص في الأمراض الصدرية كطبيب كنت أستمع إلى أبحاث حول النظريات المطروحة حول المقاومة التي يتمتع بها مرض السل؛ فقد كان أحد أساتذتنا يشرح ويتحدث عن طرحه بشأن نظرية التطور لآلية المقاومة التي تستخدمها البكتريا العضوية ضد العلاجات والأدوية. وباعتباري طبيبًا متدينًا كنت أرى حديثه مُرضيًا ومطمئنًا للغاية.
ذلك لأنني كنت أعتقد أن نظرية التطور تتناقض مع نظرية الخلق، وأعتقد أن الأبحاث متحيزة منذ البداية وتشكل مشكلة بالنسبة لمدى جديّتها علميًا.
وذات يوم ذهبت إلى غرفة أستاذي، وقلت إنني لا أثق في هذا القدر من الأحكام العامة التي تم التوصل إليها من خلال حالات مرضية أقل عددًا بكثير مما أُجري من أبحاث في مكان لم يشتهر كثيرًا بجدية أبحاثه العلمية كالهند، وحينها استمعت بخيبة أمل إلى غطرسة وأحكام مسبقة غير علمية.
كان يفعل الشيء المعهود نفسه منذ سنوات، ويكرر – معجبًا بنفسه – نفس السلوك الذي يدفع مخاطبه إلى القطب المعاكس. لكنني لم أنظر إلى الأمر أسيرًا لردة الفعل، ولم أدخل في قوقعتي وأستسلم، فقد كان كل همي وشاغلي هو العثور على الحقيقة.
ومن ناحية أخرى كنت أعتقد أن ذلك الفكر الرافض لنظرية التطور غير كافٍ أيضًا، وفضلت الابتعاد عن تلك المبادرات والمناهج الساعية إلى إيضاح القضية من خلال إنتاجها أطروحات ضد التطور.
السبب في ذلك هو وجود مجموعة من الحقائق العلمية الثابتة، وهذه الأمور أسئلة يمكن الإجابة عنها، ليس عن طريق المسلمات العقدية الدينية، وإنما عن طريق الأبحاث العلمية التي تُترَك لتسير في مجراها الطبيعي دون خلق صراع بين الدين والعلم.

وما يحدث اليوم ليس شيئًا مختلفًا، وعندما يكون هناك تعارض بين شكلي الحياة، فغالبًا ما يتم تجنبه والفرار منه إلى ما هو أسهل. حيث تُفضل الأساليب السهلة، ويُفضَّلُ أحد أمرين: إما ترك المكان والانسحاب منه، وإما الحفاظ على الموقع والموقف بتعصب وتزمت حتى النهاية.

تلك الاختيارات جديرة بالاحترام ولكنني أعتقد أن اختيار اللا دينية أو الإلحاد خيارات سهلة؛ لأننا لن نصل إلى أي مكان بسبب حالة رد الفعل الموجودة دائمًا. والواقع أنه ينبغي تقييم المسألة وتناولها بشكل أكثر عمومًا وشمولًا، وليس بمجرد الاعتراض على الحداثة أو الدين.
لم يكن موقف المحافظين في تركيا مختلفًا، فقد كان الركون إلى الجماعات والانخراط في الطرق وحماية النفس في مواجهة الحداثة فعالًا ومثمرًا بقدر ما. غير أنه حين انتهى الدفاع والمقاومة بعد مدة معينة أصبح هؤلاء في مواجهة مباشرة مع حقائق الحياة، وحينها بدا أمام الشباب خياران عليه أن يختار من بينهما: إما الاتجاه إلى اللا دينية والإلحاد، وإما السعي إلى الإبقاء القسري على حالة العزلة والانطواء على النفس.
أما الآن فإنهم يميلون إلى ربط كلِّ ما يجري على الساحة من أحداث بـ”القوى الخارجية” ودعاتها. ونفور المجتمع الديني الذي تنميه وتحركه الاضطرابات السياسية قد عمل على تضخيم القضية باضطراد، ولا زال يفعل ذلك. لأنها كانت تسعى إلى العثور على مخرج لها بواسطة الحيل الشرعية، أو أنها كانت تنغلق على نفسها، ولا تشعر بحاجة إلى التجدد في الفهم وفي النظرة الدينية وفي الفقه الإسلامي.
إن الجماعات التي حبست نفسها في شرنقتها حين تخرج خارجها تصبح كالسمك حين يخرج من الماء، وتعيش تغيرا مهمًا وخطيرًا. وهو ما يؤدي بها إما إلى الانطواء على الذات من جديد أو إلى الابتعاد عن الدين. وحتى تتمكن من تجاوز أزمة الانطواء على الذات تقوم بإنتاج وتطوير حساسية ضد العقل والعلم والعقلانية، ويتم اللجوء إلى الضغط والقمع والنبذ.
إن تصاعد الحركات الإسلامية لا يكشف عن عصر يتم فيه التوجه إلى الدين الخالص، ولا التوجه إلى اللا دينية، إنه يكشف عن عصر يتم فيه التوجه إلى الهروب من الدين والتدين، بل والغلو أكثر. وإن محاولة فهم الوضع عبر اختزال التغير الاجتماعي في عامل واحد فحسب ليس مُرضيًا ولا مقنعًا. فالموضوع أوسع وأشمل ومتعدد الأبعاد، وسوف أواصل الحديث عن ذلك في كتاباتي التالية عبر التطرق إلى أبعاده المختلفة.  
 

يمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضا:

Yorumlar